فصل: فائدة بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: في جملة من الأفعال المذمومة للمنافق:

أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة أولها: اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا وثانيها: استشهاده بالله كذبًا وبهتانًا وثالثها: لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل ورابعها: سعيه في الفساد وخامسها: سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح وظاهر قوله: {إِذَا قِيلَ لَه اتق الله} فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل: اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد، وفي اللجاج الباطل، وفي الاستشهاد بالله كذلك، وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض.

.المسألة الثالثة: قوله: {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم}:

فيه وجوه أحدها: أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلانًا بأن يعمل كذا، أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه، فتقدير الآية: أخذته العزة بأن يعمل الإثم، وذلك الإثم هو ترك الإلتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه وثانيها: {أَخَذَتْهُ العزة} أي لزمته يقال: أخذته الحمى أي لزمته، وأخذه الكبر، أي اعتراه ذلك، فمعنى الآية إذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذي في قلبه، فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل، ونظيره قوله تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ في عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2] والباء هاهنا في معنى اللام، يقول الرجل: فعلت هذا بسببك ولسببك، وعاقبته بجنايته ولجنايته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} أي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك، والأخذ أصله تناول الشيء باليد، واستُعمل مجازًا مشهورًا في الاستيلاء قال تعالى: {وخذوهم واحصروهم} [التوبة: 5] وفي القهر نحو {فأخذناهم بالباساء} [الأنعام: 42]. وفي التلقي مثل {أخذ الله ميثاق النبيين} [آل عمران: 81] ومنه أخذ فلان بكلام فلان، وفي الاحتواء والإحاطة يقال أخذته الحمى وأخذتهم الصيحة، ومنه قوله هنا {أخذته العزة} أي احتوت عليه عزة الجاهلية.
والعزة صفة يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيره ولا يُعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم قال السموأل:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ** ولا ينكرون القول حين نقول

ومنه العزة بمعنى القوة والغلبة وإنما تكون غالبًا في العرب بسبب كثرة القبيلة، وقد تغني الشجاعة عن الكثرة ومن أمثالهم: وإنما العزة للكاثر، وقالوا: لن نغلب من قلة وقال السموأل:
وما ضَرَّنَا أَنا قليل وجَارُنا ** عَزِيز وجَارُ الأَكْثَرِينَ ذَليل

ومنها جاء الوصف بالعزيز كما سيأتي في قوله: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} [البقرة: 209].
ف أَل في العزة للعهد أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه، لأن العزة تقتضي معنى المنعة فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.
وقوله: {بالإثم} الباء فيه للمصاحبة أي أخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو احتراس لأن من العزة ما هو محمود قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقين: 8] أي فمنعته من قبول الموعظة وأبقته حليف الإثم الذي اعتاده لا يرعوي عنه وهما قرينان. اهـ.

.فائدة بلاغية:

قال ابن عادل:
وفي قوله: {العِزَّةُ بالإِثْم} من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً.
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل: {بالإِثْمِ} تَتْمِيمًا للمرادِ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها. اهـ.
قوله: {بالإثم} أي: بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ تكونَ للتعديةِ، وهو قول الزمخشري فإنه قال: أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه، وأَلْزَمْتهُ إياه، أي: حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه قال أبو حيان: وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ، نحو: {ذَهَبَ الله} [البقرة: 17]، {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20]، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ.
الثاني: أَنْ تكونَ للسببيةِ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سببًا لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله: الرمل:
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ** فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فِعْلَ الضَّجِرْ

فتكونُ الباءُ بمعنى اللام، فتقول: فعلت هذا بسببك، ولسببك، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ، وبجنايَتهِ.
الثالث: أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ تكون حالًا مِنَ {العِزَّة} أي: مُلْتبسةً بالإِثمِ.
والثاني: أن تكونَ حالًا من المفعولِ، أي: أَخَذَتْهُ مُلْتبسًا بالإِثمِ.
قال القُرطبيُّ: وقيل: الباءُ بمعنى مَعَ أي: أخذته العِزَّةُ مع الإثم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ}:

قال ابن عاشور:
وقوله: {فحسبه جهنم} تفريع على هاته الحالة، وأصل الحسب هو الكافي كما سيجيء عند قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} في آل عمران [173].
ولما كان كافي الشيء من شأنه أن يكون على قدره ومما يرضيه كما قال أبو الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم

أطلق الحسب على الجزاء كما هنا.
وجهنم علم على دار العقاب الموقدة نارًا، وهو اسم ممنوع من الصرف قال بعض النحاة للعلمية والتأنيث، لأن العرب اعتبرته كأسماء الأماكن وقال بعضهم للعلمية والعُجمة وهو قول الأكثر: جاء من لغة غير عربية، ولذلك لا حاجة إلى البحث عن اشتقاقه، ومن جعله عربيًا زعم أنه مشتق من الجَهْم وهو الكراهية فزعم بعضهم أن وزنه فُعَنَّل بزيادة نونين أصله فعنل بنون واحدة ضعفت وقيل وزنه فعلل بتكرير لامه الأولى وهي النون إلحاقًا له بالخُماسي ومن قال: أصلها بالفارسية كَهَنَّام فعربت جهنم.
وقيل أصلها عبرانية كِهِنَّام بكسر الكاف وكسر الهاء فعربت وأن من قال إن وزن فعنل لا وجود له لا يلتفت لقوله لوجود دَوْنَك اسم واد بالعالية وحَفَنْكَى اسم للضعيف وهو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين ونون ساكنة وكاف وألف وهما نادران، فيكون جهنم نادرًا، وأما قول العرب رَكِيَّةٌ جهنم أي بعيدة القَعر فلا حجة فيه، لأنه ناشئ عن تشبيه الركية بجهنم، لأنهم يصفون جهنم أنها كالبئر العميقة الممتلئة نارًا قال ورقة بن نوفل أو أميَّة بن أبي الصَّلْت يرثي زيدًا بن عمرو بن نُفَيْل وكانا معًا ممن ترك عبادة الأوثان في الجاهلية:
رَشَدْتَ وأنعمت ابنَ عمرو وإنَّما ** تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا من النَّار مُظْلِما

وقد جاء وصف جهنم في الحديث بمثل ذلك وسماها الله في كتابه في مواضع كثيرة نارًا وجعل وقودها الناس والحجارة وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24]. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ المهاد}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ المهاد} ففيه وجهان الأول: أن المهاد والتمهيد: التوطئة، وأصله من المهد، قال تعالى: {والأرض فرشناها فَنِعْمَ الماهدون} [الذاريات: 48] أي الموطئون الممكنون، أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى: {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] أي يفرشون ويمكنون والثاني: أن يكون قوله: {وَلَبِئْسَ المهاد} أي لبئس المستقر كقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 29] وقال بعض العلماء: المهاد الفراش للنوم، فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك مهادًا له وفراشًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولبئس المهاد} أي جهنم، والمهاد ما يُمْهد أي يُهَيَّأ لمن ينام، وإنما سمى جهنَم مهادًا تهكمًا، لأن العُصاة يُلْقَون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {وَلَبِئْسَ المهاد} المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ {المِهَادِ} وقعَ فاصِلةً. وتقدَّمَ الكلامُ على {بِئْسَ} وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ، وأيضًا فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ، وليست مُعْترضةً، ولا مفسِّرةً، ولا صلةً. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبُّر، وزال عنهم خضوعُ الإنصاف؛ فَشَمَخَتْ آنافُهم عن قبول الحق فإِذا أمرته بمعروف قال: ألمثلى يقال هذا؟!
وأنا كذا وكذا! ثم يكبر عليك.
فيقول: وأنت أَوْلى بأن تؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا.
أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلَّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء وصفه، لم يطوِ على نصيحة جنبيه وتبقى في القلب- إلى سنين- آثارها.
قال تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} يعني ما هو فيه في الحال من الوحشة وظلمات النَّفْس وضيق الاختيار حتى لا يسعى في شيء غير مراده، فيقع في كل لحظة غير مرة في العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة: 21]. اهـ.

.لطيفة:

ذكر أن يهوديًا كانت له حاجة إلى هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم تنقض حاجته؛ فوقف يومًا على الباب، فلما خرج هارون الرشيد سعى ووقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين. فنزل هارون عن دابته وخرّ ساجدًا لله تعالى، فلما رفع رأسه أمر به، فقضيت حاجته. فلما رجع قيل: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي؟ قال: لا ولكن تذكرت قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} إلى آخره. وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دُعِيْتُمْ إلى الله فَأَجِيبُوا، وإِذَا سُئِلْتُم بالله فَأَعْطُوا؛ فإِنَّ المُؤْمِنِينَ كَانُوا كَذَلِكَ». اهـ.